Approfondir > حول "الكنفدراليّة الديمقراطيّة" : قراءة نقدية للتحولات الفكريّة لحزب العمّال (…)
حول "الكنفدراليّة الديمقراطيّة" : قراءة نقدية للتحولات الفكريّة لحزب العمّال الكردستاني
لقيَ كفاح الشعب الكردي في السنوات الأخيرة اهتمامًا متزايدًا بفرنسا (وبغيرها من البلدان). أولاً، إثر اغتيال فيدان، سَكين وليلى، المناضلات بحزب العمّال الكردستاني (ح.ع.ك.) بباريس يوم 9 جانفي 2013. وثانيًا، وبالأخصّ، نظرًا لظهور الكنتونات الكرديّة ذات الاستقلالية الذاتيّة في روجافا ]]أعلنت مناطق كردية بشمال سوريا، خلال الحرب الأهليّة، استقلالها الذاتي، وصارت تسيّر نفسها خارج سلطة الدولة. ويُعدّ ح.ع.ك. القوةّ المسيطرة تحت اسم ح.إ.د. (حزب الاتّحاد الديمقراطي). [1]يعتمد الشيوعيون، الذين يعلنون انتسابهم لأفكار ماركس ولينين، صفة "ماركسي لينيني". الاّ أنّه في الواقع، إلى جانب المجموعات الثوريّة فعلًا، تطلق مجموعات أخرى تحريفيّة (أيّ أنّ خطابها ثوري لكنّ ممارستها إصلاحية) على نفسها هذه الصفة. [2]الأغا والشيخ هما من الألقاب الاجتماعيّة التي يحملها أعضاء الطبقات المهيمنة بالمجتمع الكردي وبعدد من بلدان المنطقة. أمّا البرجوازية الكمبرادوريّة، فهي تلك التي تعيش من دورها كوسيط تجاري مع الامبرياليّة. [3]"كردستان، تركيا : نحو الثورة !"، (م.ش.م.ل.ط.ب.)، ماي 1992. [4] العدد 70 من مجلّة "بارتيزان" (النصير) _ السلسلة القديمة_ أفريل 92. [5] حركة اسلاميّة سنّية عنيفة، كانت مدعومة من المخابرات التركيّة ضدّ ح.ع.ك. في الثمانينات والتسعينات. لا علاقة له بحزب الله اللبناني. [6]جريدة ’لوموند’، 21 مارس 2014. [7]شاهد الوثائقي "أوجلان والمسألة الكرديّة"، لويس ميراندا، 2014. [8]بالصفحة 21 من كتاب "الكنفدراليّة الديمقراطيّة". [9]نفس المصدر السابق، ص 30. [10]أنظر "بيان الحزب الشيوعي" لكارل ماركس (1848). [11]بالصفحة 26 من كتاب "الكنفدراليّة الديمقراطيّة". [12]بالصفحة 34 من نفس الكتاب. [13]بالصفحة 24 من نفس الكتاب. [14] بنفس الموقع [15]في 1994، أطلق "الجيش الزاپاتستي للتحرير الوطني" (ج.ز.ت.و.)، وهي مجموعة يساريّة مسلّحة، تمرّدًا في منطقة الشياپاس الجبليّة التي يعمّرها السكّان الأصليون، "الأميرنديوّن"، بجنوب المكسيك. ومنذ ذلك الوقت يسيطرون على جزء من المنطقة وتمّ عمليًا وقف إطلاق نار مع الجيش المكسيكي. [16]المترجم : "التناحرية" هي التعريب المُقترح لكلمة antagoniques. [17]ص33 من نفس المصدر. [18]ص 29 من نفس المصدر. [19]أنظر "الحلّ الصحيح للتناقضات وسط الشعب"، ماو تسي دونع (1957). [20]حسب كارل ماركس، تمثّل كمونة باريس (18 مارس الى 28 ماي 1871) أوّل مثال تاريخي على نظام ديكتاتورية البروليتاريا. وتمّ سحقها من قبل الجيش البرجوازي لحكومة فِرسايْ. [21]لمزيد مناقشة الموضوع يرجى الاطّلاع على " باسم الشعب، أُعلنَت الكومونة ! "، (م.ش.م.ل.ط.ب.) في 1996. [22]ص41 من كتاب "الكنفدراليّة الديمقراطيّة". [23] ص 31 من نفس المصدر. [24]ص 42 و43 من نفس المصدر. [25]أنظًر مقال " تحرير فلسطين : أيُّ حلفاء ومن أجل أيٍ آفاق؟ "، بنفس هذا العدد. [26]ص 42 من كتاب "الكنفدراليّة الديمقراطيّة". [27]ص 32 من نفس المصدر السابق. [28]ص 40 من نفس المصدر. [[ ويمكن ببساطة للجناح العسكري لـ ح.ع.ك. أن يضع نهائيًا سلاحه في حال بعث ما يُشبه "هيئة الحقيقة والمصالحة" على الطريقة الجنوب افريقيّة.
تُعدُّ إيرلندا الشماليّة وافريقيا الجنوبيّة مثاليْن على تصفية كفاحٍ تحريريٍّ وطنيٍّ مقابل مساواةٍ شكليّةٍ بين جميع المواطنين. وتَقاسُمٍ للسلطة بين الحُكم العنصري وقيادات حركات التحرّر التي باعت نفسها. بالنسبة للشعب الكرديّ، يتعلّق الأمر بأسوإ المقترحات السياسيّة الممكنة، فهو يعني ببساطة تصفية حركة تحرّره الوطني والاجتماعي.
لسْنا منظّمة دوغمائيّة. ونحن مع النقاش بين الثوريّين الصادقين حول أفضل السُبُل لبلوغ غايتنا، بغضّ النظر عن التيّارات التي قد ننتمي إليها. ولذلك نريد من خلال هذا المقال تنبيه رفاق النضال بخصوص المناقب التي ينسبونها باطلاً إلى ح.ع.ك.
مواقفنا السياسيّة ووجهة نظرنا حول كيفيّة القيام بالثورة ليست أقوالاً خاوية ولا مغرورة. بل هي ثمرةُ التجربة، النقدُ والنقد الذاتي، والمقاربة العلميّة.وبالنسبة إلينا، يتّخذُ الانتسابُ للماركسيّة، اللينينيّة والماويّة معنًى مُحدَّدًا : هو رؤيةٌ للعالَم، إستراتيجية وتكتيكاتٌ متّسقة من أجل التقدُّم نحو مجتَمَعٍ خالٍ من الطبقات ودون دولَةٍ.
***
ترجمة : منظمة العمل الشيوعي- تونس
Traduction : Organisation du Travail Communiste - Tunisie
de l’article "A propos du Confédéralisme démocratique"
[1] خلال الحرب الأهليّة الدائرة في سوريا. كما أدّى حصار تنظيم "داعش" لمدينة كوباني في شتاء 2014-2015 إلى موجة من الدعم للأكراد في سوريا ولمنظمّتهم الرئيسيّة حزب الاتّحاد الديمقراطي، التي تُعدُّ الفرع السوري لـ ح.ع.ك.
اختلطت أشياء متنوّعة في موجة الدعم : التعاطف في وجه الجرائم الهمجيّة لداعش، النقمة على عدم تحرّك القوى الامبريالية وتواطئ الدولة التركيّة مع "الجهاديين"، لكن كان هنالك أيضا اهتمام واضح لقطاع شاسع من الحركة الأناركيّة بمفهوم "الكنفدراليّة الديمقراطيّة"، الخطّ السياسي الجديد لـ ح.ع.ك.، الذي يؤكّد الحزب أنّه بصدد تجسيده اليوم في روجافا. ونظرا لتقديم البعض بفرنسا، وخارجها، لهذه "الكنفدراليّة الديمقراطيّة" كنموذج مجتمعّي مُلهم، رأينا ضرورة مناقشة الموضوع.
***
انخرطت منظّمتنا في دعم الشعب الكردي على قاعدة أنّ هذا الدعم يجب أن يندرج أساسًا في سياق النضال ضدّ الامبرياليّة.
إذ أنّ الفوضى التي يعيشها كلّ من العراق وسوريا، والمجموعات الفاشيّة كداعش والقاعدة، هي في واقع الأمر نتائج مباشرة أو غير مباشرة للتدخّلات الامبرياليّة المتواصلة بالمنطقة منذ ما لا يقلّ عن قرن من الزمن. وعليه، لا ينفصل دعمنا للأكراد في سوريا عن رفضنا للتدخّلات العسكريّة الامبرياليّة.
وإن كنّا نستطيع فهم أن يرفع الأكراد شعارًا مطلبيًا من نوع "على الغربيّين أن يعطوا أسلحة لروجافا"، فإنّنا لا نراه مقبولاً، ضمن العمل الجبهوي، الاّ إذا ترافق مع إدانة واضحة لازدواجية الامبرياليّين، ولمسؤوليتهم عن الأوضاع والخ. باختصار، إن لم يساهم في نشر الأوهام حول حقيقة دور الامبرياليين، وإذا أعانَت ذريعة "طلب مساعدتهم" على وضعهم في موقع الاتّهام. ولا معنى كذلك لهذا المطلب إذا لم يترافق أيضا بالرفض الصريح لأيّ نوع آخر من التدخّل الامبريالي.
وعلى كلّ حال، نحن نساند الكفاح الديمقراطي والمعادي للامبريالية للشعب الكُردي، مهما كانت المنظّمة التي تقوده، وبغضّ النظر عن خلافاتنا الممكنة معها. كما نعتبر روجافا التجربة الأكثر تقدّمية اليوم في المنطقة، لما تعرفه من دعم لحقوق النساء والأقلّيات القومية والحقوق الفردية والجماعيّة الأساسيّة.
فأكراد سوريا هم اليوم في طليعة المتصدّين لفاشيّي داعش. إلاّ أنّنا بالمقابل لا نستطيع وصف الحراك السياسي الجاري حاليًا في روجافًا بـ "الثورة الاجتماعيّة". أولاً، لأنّ أيّ تقييم نهائي لحالة سياسيّة واجتماعيّة يجب أن يكون نتيجة تحقيق جدّي. وثانيًا، لأنّ التجربة التاريخية لـ ح.ع.ك. تجعل طابعه الثوري موضع الشكّ.
ما هو ح.ع.ك.؟ وما هو مفهوم "الكنفدراليّة الديمقراطيّة"؟
ح.ع.ك. هو الحزب الذي يقود اليوم كفاح الشعب الكُردي، على الأقلّ في تركيا وسوريا. وقد تبنّى ظاهريًا، منذ تأسيسه في أواخر سبعينات القرن الماضي، الخطّ الماركسي اللينيني1
[2] . كان يقدمّ تركيا كدولة مُهيْمَن عليها من الامبرياليّة، لكنّها في نفس الوقت تتصرّف كقوّة استعماريّة في كردستان. وكان يؤكّد، بشكل سليم، أنّ التناقض الرئيسي في الشرق الأوسط هو بين الشعوب والقوى الامبرياليّة. وأنّ هذه الهيمنة تعتمد على الأنظمة الرجعيّة بالعالم العربي، وفي إيران وتركيا، إلى جانب إسرائيل التي تُعتَبر ركيزة أساسيّة في الهيمنة الامبرياليّة على المنطقة.
كان الحزب يعتبر أنّ الاحتلال التركي، والاقطاع الكردي الذي يخدمه، العائقيْن الرئيسيّين أمام تحرّر الجماهير الكرديّة. وعلى هذا الأساس كان يميّز داخل المجتمع الكردي بين الطبقات التي يجب أن تقود الثورة (العمّال والفلاّحين)، وتلك التي ستنضمّ إليها، عن أعدائها اللدودين : الإقطاعيون بكلّ أصنافهم (مُلاّك الأراضي، الآغوات، الشيوخ، رجال الدين...)، الكمبرادور2
[3] الأكراد، عملاء الدولة التركيّة، والخ.
إلى جانب ذلك، كان ح.ع.ك. ينادي بإعادة توحيد كردستان (المُقسّمة بين عدّة دول محتلّة) وباستقلالها، رافضًا كلّ مخطّطات حلّ المسألة الكرديّة ضمن الحدود الحاليّة.
في بداية التسعينات أصدرت منظمّتنا نقدًا لـ ح.ع.ك. 3
[4] باستنادنا إلى النقد الذي قامت به المنظمّات الشيوعية التركيّة، أكّدنا على جملة من النقاط :
اعتبر ح.ع.ك. حتى النهاية الاتحاد السوفياتي كبلد اشتراكي فعلي، وكان يرفض النقد الماوي للتحريفيّة ويعدّها سكتاريّة.
خلال الحقبة التي كانت قيادته لاجئة في سوريا ولبنان، في السنوات 1980 و1990، كان ح.ع.ك. يعتبر الديكتاتورية الفاشيّة لآل الأسد كـ"حليف ضدّ الامبرياليّة"
[5] 4 .
كان لـ ح.ع.ك. في تلك الفترة موقف ملتبس تجاه الحركات الاسلاميّة. في نفس الوقت الذي كان يخوض فيه صراعًا ضدّ "حزب الله" التركي5
[6] ، عبّر عن الموقف التالي : "لا يمكن اعتبار الحركات الدينيّة كعدوّ، بالنظر إلى سعيها لقلب الأنظمة الحليفة للغرب ولاتبّاعها خطًا راديكاليًا".
أخيرًا، وربمّا الأهمّ، لم يكن ح.ع.ك. يومَا منظّمة تعمل بشكل ديمقراطي. الجدال الداخلي لم يكن حرًّا، وكان يتمّ حلّ التناقضات السياسية الهامّة بشكل ممنهج عبر الاقصاء. بل وأحيانًا عبر اغتيال أعضاء من المنظّمة واتّهامهم بكونهم عملاء للدولة التركيّة.
سطع نجم ح.ع.ك. طيلة السنوات 1980. وقاد بداية التسعينات هجمة عسكريّة واسعة في مواجهة الدولة التركيّة، بغاية تحرير مساحات شاسعة من المناطق الكرديّة. إثر الفشل العسكري الذريع، توجّه الجزب شيئا فشيئا إلى التفاوض مع تركيا.
دعا عبد الله أوجلان، القائد التاريخي، للحزب مؤخّرًا6
[7] حزبه إلى ترك الأسلحة نهائيًا، بهدف إيجاد أرضيّة للتفاهم مع النظام التركي. في الحقيقة، لم يكن هذا أمرًا جديدًا قطّ. إذ يتبنّى أوجلان هذا الخطّ علنًا منذ بداية التسعينات7
[8] ، معتبرًا أنّ حلّ المسألة الكرديّة لا يمكن أن يكون سوى سلميًا. في تلك الفترة، قرّرت قيادة ح.ع.ك. كتعبير عن "حسن نواياها" سحب الجزء الأهمّ من قوّاتها من كردستان تركيا إلى ثكنات بكردستان العراق، بمنطقة تلال قنديل.
اختطفت المخابرات التركيّة أوجلان في كينيا سنة 1999، بينما كان لاجئا بالخارج إثر الانقلاب العسكري لسنة 1980. كما قضّى سنوات عديدة في سوريا، التي كانت تحتضن قيادة الحزب. حُكِم على أوجلان بالسجن مدى الحياة. ومن زنزانته، وضعَ أوجلان الخطّ الاستراتيجي الجديد لـح.ع.ك. في عدد من المنشورات ("الحرب والسلام في كردستان"، و"الكنفدراليّة الديمقراطيّة"). وهكذا عوّضت الكنفدراليّة الديمقراطيّة رسميًا الماركسيّة في بداية سنوات الـ 2000.
كيف تمّ تعريف الكُنفدراليّة الديمقراطيّة؟ استلهم أوجلان مباشرة من مورايْ بوشكين، وهو أمريكي يحمل أيديولوجيا أطلق عليها "البلديّة اللاسلطويّة". وهي عبارة عن مزيج من أناركيّة، إيكولوجيا ونسويّة راديكاليّة. يعرّفها كـ"نوعٍ من الحوْكمة، من الإدارة السياسية غير الدَوْلتيّة، أو كذلك كديمقراطيّة من دون دولة"
[9] .8 يتعلّق الأمر أساسًا بتعويض الدولة بفيدراليّات مجالسٍ قائمة على الديمقراطيّة المباشرة. يتمتّع كلّ منها بقدرٍ واسعٍ جدًا من الاستقلاليّة الذاتيّة، ولها حرّية أن تقرّر التعاون مع الأخرى أم لا، وينسحب مبدأ التسيير الذاتي هذا على كلّ مستويات المجتمع. يجب الاكتفاء بالحدّ الأدنى من البُنى السياسيّة التي تعلو المجالس القاعديّة، لأنّ كلّ نزعةٍ للمركزة تُعتَبَر سيّئة وحاملة لمخاطر البيروقراطيّة والتسلّط. يُنظَر للتنسيق بين المجالس على أنّه متحرّك، ويتطوّر بشكل ثنائي مباشر حسب إرادة الطرفين، وعابرٌ للحدود القوميّة. ويقول أوجلان حرفيًا، يجب تفادي "كلّ أشكال هيمنة مجموعة على أخرى".9
[10] يجب الغاء كلّ أشكال أجهزة الدولة فوريًا. كما يجب أن يضطلع أفراد المجتمع مباشرة بكلّ الوظائف التي كانت تحتكرها الدولة، تحديدا القوّة المسلّحة.
نحن الشيوعيون، نوافق على الحاجة النهائيّة للبشريّة أن تلغي الدول وتبني مجتمعًا جديدًا قائمًا على التعاون الديمقراطي بين الأفراد، بعد القضاء على الطبقات. لكن سنرى لماذا نختلف بشدّة مع الطريقة التي يقدّم بها أوجلان وتيّار الكنفدراليّة الديمقراطيّة هذا المسار.
ديكتاتورية البروليتاريا ضروريّة
بالنسبة لعبد الله أوجلان، يقع التناقض الرئيسي في المجتمعات الحديثة بين الدولة من جهة والمجتمع من الأخرى. يتبنّى أوجلان أطروحة أناركيّة كلاسيكيّة، مفادها أنّ الدولة هي المشكل الرئيس. لا تمثّل الدولة بالنسبة له أداةً بيد الطبقة المسيطرة، كما ترى الماركسيّة.10
[11] بل يراها كيانًا مستقلّاً، يضطهدُ المجتمعَ كافّة. يعترف أوجلان بوجود البرجوازية كطبقة مستغِلَّة، لكن يرى دورها ثانويًا. العدوّ الأساسي، بنظره، هو الدولة، التي تسيطر على المجتمعوتستغلّ قوّة العمل. فاشتغال الرأسماليّة يعتمد كلّيًا عليها. لا يتمّ شرح الرأسماليّة في كتاباته كعلاقات انتاج (أيْ الطريقة التي يُنظّم بها استغلال عمل البروليتاريين من قِبَل البرجوازيّة)، بل بشكل سطحيّ كمجرّد اقتطاع لثروات المجتمع من طرف الدولة، التي تحتلّ في نهاية المطاف دور المُستَغِلّ. فالنسبة لأوجلان دور الدولة، مهما كان شكلها، لا يمكن أن يكون سوى سلبيًا، كأداةٍ لقمع الجماهير. وهو يرفض ضرورة وجود شكل انتقالي للدولة خلال المسار الثوريّ، ديكتاتوريّة البروليتاريا. إذ يزعم أنّ التجربة التاريخية قد أثبتَت أنّ كلّ محاولات إرساء دولة عمّالية باءت بالفشل.
بالفعل، لا يوجد حاليًا أيُّ دولة تمارس ديكتاتورية بالبروليتاريا في العالم. جميع التجارب إمّا انهزمت أو أنتجت برجوازية جديدة أعادت الرأسماليّة. إلّا أنّ أوجلان يمرّ بسرعة على كلّ هذا ولا يبرهن قطّ عن صحّة رأيه أو يعطي تفسيرًا للميكانيزمات التي أدّت لهذه النتيجة. يمكن ملاحظة أنّ أوجلان، وح.ع.ك. قد انتقلا من موقفٍ رافضٍ لنقد "الاشتراكيّة الحقيقيّة" (أيْ الاتّحاد السوفياتي والدول التي كانت تزعمُ أنّها اشتراكيّة فيما كانت تمارس فعليًا رأسماليّة الدولة) إلى موقفٍ رافضٍ تمامًا، دون أيّ نقد جدّي أو بحث معمّق، لكلّ أشكال ديكتاتورية البروليتاريا.
صحيح أنّ الدولة تحيط بكامل المجتمع، لديها استقلالية ذاتية نسبيّة عنه، وأنّ طاقم قيادتها يدافع بشكل ما عن مصالحه الخاصّة. الاّ أنّ ذلك يبقى ثانويًا. بالنسبة إلينا، يقع التناقض الرئيسي للمجتمع بين الطبقة المُستغِلّة والطبقة المُستغَلَّة، أيْ بين البرجوازيّة والبروليتاريا. تنظيم المجتمع هو في نهاية التحليل نتيجة لنمط الإنتاج الرأسمالي، والدولة هي بالنهاية أداة بيد البرجوازيّة، حتّى وإن حصلت أحيانًا تناقضات بين الحكومة وكبار الرأسماليين مثلا. صقلت البرجوازية الدولة حتّى تكون في خدمتها.
نحن نرى أنّه يجب على البروليتاريا والشعب لا فقط اسقاط جهاز الدولة البرجوازيّة، بل كذلك، إرساء دولتهما طيلة فترة معيّنة. الأمر ضروري طالما لم تختفِ الطبقات بعد، لأنّ الدولة بتعريفها أداة لترسيخ ديكتاتوريّة طبقةٍ ما. فاختفاء الطبقات صيرورة مركّبة وطويلة، وفي انتظار ذلك تحتاج الطبقات الثوريّة إلى نظامها الخاصّ بها من أجل توطيد سلطتها على كامل المجتمع، ولتركيز قواها وتنفيذ سياساتها في مختلف المجالات. وهو ما يعني، ضمن أمورٍ أخرى، من أجل قمع البرجوازيّة وبشكل عامّ كلّ الشرائح الاجتماعيّة المعادية للثورة (التي سيستمرّ بقاؤها كطبقات واعية بذاتها وطامحة لاستعادة ما أُخذَ منها). ستتجّه هذه الدولة نحو الزوال بالتوازي مع زوَال التناقضات الطبقيّة. لأنّه لن تبقَ هناك حاجة وقتها لبُنْيَةٍ مخصوصة، تغطّي المجتمع بأكمله،لتأمين السلطة التامّة للطبقة المسيطرة. على العكس من ذلك، سنرى لاحقًا كيف يعتقد أوجلان أنّ التحوّل الاجتماعي يُمْكن، ويجبُ، أن يكون سلميًا...
الانحلال، عودة البرجوازية السابقة للحكم أو تشكلّ برجوازية جديدة عبر جهاز الدولة، تمثّلُ كُلَّها مخاطر كبرى محتمَلة. لذلك يؤكّد تصوّرنا الماوِي على أنّ افتكاك السلطة السياسية للبرجوازية ليس سوى بداية الثورة. فالتحوّل الشامل للمجتمع هو مسارٌ طويل الأمد، صراعٌ مستمرّ بين القديم والجديد. بالمقابل، يقود مفهوم الكنفدراليّة الديمقراطيّة إلى الاعتقاد بأنّ الأصعب قد تحقّق بإسقاط الدولة. أمّا الباقي فسيتمّ تسويته عبر التوافق المجتمَعي.
اسقاط البرجوازيّة ودولتها سلميًا غيرُ ممكن
يكتب أوجلان بكلّ وضوح أنّه يعارض فكرة الثورة واسقاط الطبقات المسيطرة بالقوّة : "لا يمكن للثورة أن تبني مجتمعًا جديدًا"11
[12] . يعتقد أنّه لا يمكن اسقاط الدولة، بل يجب اضعافها تدرجيًا إلى أن تندثر دون قدرة على المقاومة. وتشتمل الاستراتيجية التي يقدّمها أوجلان على جانبين : الأوّل الدفع نحو دمَقْرَطة الدولة بهدف اضعاف قدراتها القمعيّة. فيما يتمثّل الثاني في زرع وتطوير مؤسّسات الكنفدراليّة الديمقراطيّة. أيْ إرساء أشكال حكمٍذاتيٍّ محلّي، تنهض بكلّ بشؤون النّاس بعيدًا عن الدولة، والعمل على انتشارها شيئا فشيئا في كامل البلاد. وهكذا، يتجّه جهاز الدولة من داخله إلى حتفه رُويدًا رويدًا، من جهة عبر دمقرطته ومن جهة ثانية عبر انتشار سلطة مضادّة له.
سينتشر النموذج الجديد للمجتمع بسلميّة تامّة، من خلال اقناع البلاد وكامل شعبها بأنّه "قادرٌ على حلّ المشاكل".12
[13] سيتمّ التخلّي عن العنف الثوري، الذي يُقيَّم على أنّه سّيء، ولن تَستعمل الكنفدراليّة الديمقراطيّة العنف إلا للدفاع عن نفسها ضدّ الهجمات المباشرة للدولة. ويضيف أوجلان أنّ "الكنفدراليّة الديمقراطيّة منفتحة على التوافق مع التقاليد الدولتيّة"13
[14] ، وعلى "التعايش في كنف المساواة"14
[15] مع الدولة. يأملُ أوجلان أن تَقبَل الطبقات المسيطرة بهزيمتها دون أن تُحرّك ساكنًا.
يتعلّق الأمر بوضوح بوجهة نظر إصلاحيّة. ونحن بداهةً لا نعترض على النضالات من أجل الإصلاحات. لكنّنا لا نعتقد أنّ البرجوازيّة ستتهاوى بتَتَالي الإصلاحات الجزئيّة والمتدرّجة. إذ لا تهدف نضالات البروليتاريا والشعب إلى تلبية حاجياتهم الضروريّة فحسب. بل ينبغي كذلك تعزيز هذه النضالات، في كلّ مرّة أكثر، عبر الوعي والتنظيم، من أجل التحضير للانقضاض على الحكم. إنّه من الوهم الاعتقاد بإمكانية طرد الطبقات المسيطرة من الحكم عبر المزاوجة بين تتالي النضالات الجزئيّة المنتصرة وخلق فضاءات مستقلّة ومُسيَّرة ذاتيًا. فشلت كلّ التجارب التي اتّبعت هذا النهج.
يقدمّ أنصار الكنفدراليّة الديمقراطيّة، وأُوجلان نفسه، مثال مناطق الاستقلال الداخلي للزاپاتيستيّين15
[16] في شياپاس بالمكسيك كدليلٍ على صحّة فكرتهم. أيْ بإمكانيّة تغيير المجتمع عبر تأسيس مناطق ذات استقلال داخلي، وأنّ تجارب التسيير الذاتي هذه يمكنها أن تعيش بشكل دائم في كنف الدول الحديثة.لكن، ما هي حقيقة الحركة الزاپاتستيّة؟ في الواقع، تتسامح الدولة المكسيكيّة مع هذه المناطق ذات الاستقلاليّة الذاتيّة، طالما هي، اليوم، لا تمثّل تهديدًا للنظام القائم. بذريعة افساح المجال للتنظّم الذاتي للشعب، ولاستحالة القيام بثورة في مكان الآخرين (وهو أمرٌ صحيحٌ في المطلق)، يَصرِفُ الزاپاتيّون نظرهم عن بناء حركة ثوريّة بكامل المكسيك، فيما يعيش الشعب اليوم مرحلة رهيبة.
يقبع ج.ز.ت.و. اليوم في الجبال، محافظًا على قوّته المسلّحة فقط كأداة دفاع ذاتي في وجه اعتداءات الجيش والشرطة. لا يريد الزاپاتيّون قلب الدولة المكسيكيّة، ولذلك تتركهم هذه لحالهم. بالفعل، "التعايش السلمي" مع الطبقات المسيطرة ممكن، لكن فقط في حال التخلّي عن هدف الإطاحة بها.
التناقضات التناحرية العدائية16
[17] والتناقضات غير العدائية
رأينا أعلاه تصوّرًا للطريقة التي سيتمّ بها الانتقال إلى الكنفدراليّة الديمقراطيّة. الآن، فلنحاول تبيّن كيفيّة عملها من الداخل. لا مجال هنا للصراع الطبقي أو لاستيلاء البروليتاريين والشعب على السلطة. فحسب أوجلان، في كنف الحكم الكنفدرالي الديمقراطي، يجب أن تتمتّع كلّ المجموعات الاجتماعيّة بحقّ التعبير وبالمساواة فيما بينها، دون المزيد من التوضيح. ستكون المجالس مفتوحة "لكلّ الناسّ"17
[18] ، وستأخذ فيها القرارات بالتوافق، مع فكرة أنّه لا توجد بالمجتمع مصالح لا يمكن التوفيق بينها، بل أنّ كلّ الخلافات يمكن أن تُحلّ عبر النقاش والتفاهم. يجب، كما يقول، احترام الآراء المختلفة دون تمييز بينها... حتّى أراء أعدائنا الطبقيّين؟
يبدو إذن أنّ مسألة مصير مضطَهِدِينا السابقين غير مطروحة. أوجلان لا يتناولها بشكل صريح. فهل يرى أنّه يجب اعتبار البرجوازيين، بعد نزع أملاكهم، والجنرالات، إثر نزع سلاحهم، رجالاً ونساءً كغيرهم، وبنفس الحقوق؟ هل يجب كذلك أن نسعى إلى التوافق معهم؟
في الواقع، بما أنّ أوجلان يعتبر أنّ المشكل الأساسي للمجتمعات المعاصرة يتمثّل في الدولة، فإنّه من المنطقي، حسب هذا التمشّي، الاكتفاء بإنهاء الدولة من أجل إنهاء كلّ التناقضات التعارضيّة. ومن أجل السماح بالاندماج المنسجم بين مختلف المجموعات الاجتماعية في الكنفدراليّة الديمقراطيّة.
من جهة أخرى، يُولي التوجّه الكنفدرالي الديمقراطي موقعًا عُلوِيًا للامركزيّة، الأفقيّة منها كما العموديّة : " يجب أن يُسمح لجميع مستويات المجتمع بالتسيير الذاتي، كما يجب أن تكون لها الحرّية في المشاركة ".18
[19] يجب أن تتمتّع كلّ مدينة، جهة، شركة مسيّرة ذاتيًا، بحرّية المشاركة من عدمها، وبحرّية اتّباع قرارات الأغلبيّة أو لا. يجب أن تُعطى الأولويّة للمصلحة المحلّية على حساب المصلحة العامّة.لكن هل التوافق ممكن دائمًا؟
في بعض الأحيان، من أجل أن نتقدّم يجب أن نحسم، وأن نختار وجهة نظر على حساب غيرها عندما لا يكون الاتفاقّ ممكنًا. بالنسبة إلينا، لا تتمثّل الديمقراطيّة الحقَّة في الاستقلاليّة القُصوى وفي أن يفعل كلّ واحدٍ ما يريد بمعزل عن الآخرين. بل في أن يكون لكُلٍ منّا كلمته حول كلّ شيء، عَلى أنْ يتمّ تقديم الرأي الأغلبي على الأقلّي، مع الاحترام الكامل للثاني. فهذه هي الطريقة الوحيدة لضمان التطوّر المتجانس للمجتمع.
نحن نريد الغاء التمييز الاجتماعي، الغاء الاختلالات الجهويّة، الغاء التقسيمات المادّية بين مختلف قطاعات البروليتاريا، وجميعها إفرازات للتنظيم الاجتماعي الرأسمالي. لا يمكننا القيام بذلك عبر إعطاء الأولويّة للاستقلال الداخلي لكلّ مدينة أو لكلّ شركة.
نحن الماويّون نفرّق بين التناقضات غير التعارضيّة (وسَط الشعب) والتناقضات التعارضيّة (بين الشعب وأعدائه)19
[20] . يجب حسم الأولى عبر الحوار والنقد والنقد الذاتي، وأن تكون الغاية من حسم التناقض هي البحث عن الوحدة. بهذه الطريقة ينبغي حلّ التناقضات مثلا بين الرجال والنساء، والعمّال الفرنسيين والمهاجرين. أمّا تناقضات النوع الثاني فلا يمكن حلّها عبر الحوار والتوافق. وهو حال التناقض بين البرجوازي المُستغِلّ والعامل المُستَغَلّ. لا يكون الهدف هنا تحقيق الوحدة، لأنّها مستحيلة بينهما. تتمثّل الطريقة الوحيدة لحلّ المشكلة في التخلّص من المُستَغِلّين.لا نجد أثرًا في الكنفدراليّة الديمقراطيّة لهذا التمييز الضروري، بين مختلف أصناف التناقض، من أجل حلّ المشاكل. إذ يبدو وكأنّ المجتمع لا تشُقّه سوى التناقضات غير التعارضيّة.
ينسِبُ الأناركيّون أنفسهم، كما الماركسيّون، إلى تجربة كومونة باريس20
[21] . إلاّ أنّ أحد دروس هذه التجربة يتمثّل في أنّه عندما يقرّر البروليتارِيّون إسقاط البرجوازيّة، لا تقبل الأخيرة أيُّ توافقات. من مَقاتِلِ الكومونة العزوف عن مهاجمة فِرسايْ عندما كان ذلك مُتاحًا، والانتظار عوض ذلك، بسلبيّة ودون طائل، أن تنتشر الثورة بكامل البلاد.
تُبيِّن لنا التجربة التاريخيّة المعاصرة، في بلادنا ]فرنسا[، أنّه من السذاجة تأمُّلُ حصول "تعايش سلميِّ" بين السلطة الشعبيّة والسلطة البرجوازيّة. كما تُثبتُ لنا حصيلة تجربة الكومونة أنّه لا يمكن للطبقة العاملة، عند وصولها للحُكم، أن تتعامل بطيبة زائدة مع البرجوازيّة. يجب على الشعب أن يفتكّ السلاح من يد البرجوازيّة، ويستعمله ضدّها؛ أن يتّخذ موقفًا هجوميًا. ومن بين أسباب فشل الكومونة أنّها بقيَت متردّدة حيال عدوّها. إذ تُرِكَ للبرجوازيّين الباريسيّين المُعادين للثورة فرصة تحضير دخول قوّات فِرْسايْ، ولم يتمّ الاستيلاء على بنك فرنسا بذرائع تأنيبيّة ديمقراطيّة. كانت الكومونة متردّدة بسبب الطبيعة البلديّة للسُلطة، بسبب نقص مركَزَة الفعل السياسي.في مواجهة الخطر الدائم لا مندوحة عن الانضباط ووحدة الفِعل؛ وهذا لا يُغني طبعًا عن النقاش والديمقراطيّة21
[22] .
وبالمناسبة، ما يسمح لكنتونات" روجافا" بالصمود اليوم هو تواجد قيادة سياسيّة قويّة، واضحة ولا معارَضَة لها : ح.ع.ك. الذي يُمركز القرارْ وينسّق الفِعْل. وبغضّ النظر عمّا يقوله الأناركيّون، لا تمثّل روجافا تطبيقا للكنفدراليّة الديمقراطيّة ولا للنظريّات الفيدراليّة اللاسلطويّة.
وجهة نظر أوجلان حول الوضع في الشرق الأوسط
في تحليله لمشاكل الشرق الأوسط، يشير أوجلان إلى الفكر القومي ونموّ المشاعر القوميّة لدى الشعوب كمصدرٍ رئيسٍ للحروب والمجازر والديكتاتوريات المُضطَهِدَة. لا يعترف، على ما يبدو، بأيِّ جانب إيجابي لحركات التحرّر الوطني للشعوب. وهذا كلامٌ مناقض لتاريخه السياسي نفسه، فلوْلا نموّ الشعور القومي الكُردي لما كان هنالك ح.ع.ك. ولا روجافا ولا كنفدراليّة ديمقراطيّة.
ويَمضِي أوجلان بعيدًا حين يؤكّد أنّ الأمم لا تعدُو أن تكون أكثر من تراكيبَ ذهنيّة، لا وجودَ موضوعيٍّ لها. وتكاد الامبريالية أن تغيب تمامًا من لوحة قراءته، ففعلُها هامشيّ، وبشكل جدُّ ثانويّ. يتعلّق الأمر هنا أيضا بوجهة نظر أناركيّة دوغمائيّة. بالنسبة لأوجلان لا تُمثّل الامبرياليّة المشكل الرئيس لشعوب المنطقة.
وعليه، يتجّه في قراءته لمختلف النزاعات إلى تحميل المسؤولية لكلا الطرفيْن المتنازعين، ويخلِط قوميّة الأمَّة المُضطَهَدَة بقوميّة الأمّة المُضطَهِدَة. وهو ما يقوده إلى تقديم تفسيرات لا تُعقَلْ. من ذلك أنّ الشعور القومي للشعب العربي هو المتسبّب في إضعافه وتقسيمه؛ وأنّ نهوض القوميّة الأرمينيّة، بإثارته نهوض القوميّة التركيّة، هو ما أدّى في النهاية إلى جرائم الإبادة الجماعيّة.22
[23] رغم أنّ الحركة الكرديّة في تركيا تحملُ موقفًا شديد الوضوح في مساندته للحقوق الديمقراطيّة للشعب الأرمني، تبدو تفسيرات أوجلان قريبة من الأطروحات الإنكاريّة للدولة ولأقصى اليمين التُركيَّيْن.
وفي نفس الوقت الذي يرفض فيه أوجلان الفكر القومي، تنبثق مقاربته للتناقضات بالمنطقة من زاويّة اثنيَة بحْتَة. إذ يرى مختلف الشعوب ككُتل متجانسة، لدى كلٍّ منها نفسانيّة قوميّة واحدة. يلامسُ الأمر عنده العنصريّة أحيانًا. فالعرب يتِّسمون بـ " الطاعة الخانعة "، ووضعهم "يبدو ميؤوسًا منه". وعند الأتراك " تُعتَبَر الطاعة الفضيلة الأساسيّة "23
[24] . لا نرى لديه قطُّ بداية تحليلٍ للتناقضات الاجتماعيّة والسياسية الداخليّة لهذه الشعوب. وبالنظر لكلّ الانتفاضات الشعبيّة التي هزّت بلدان المنطقة في السنوات الأخيرة، تبدو هذه التأكيدات مُهينَةً.
ويصل الأمر بأوجلان إلى إبداء شيء من التعاطف مع إسرائيل والصهيونيّة24
[25] ، من جهة بسبب مساواته بين كلّ القوميات، ومن جهة ثانية لاعتقاده أنّه يرى في الأسطورة الصهيونيّة حول "الكيبوتزات" صلة قرابة مع الكنفدراليّة الديمقراطيّة. هو يمدحُ "الديمقراطيّة" داخل المجتمع الإسرائيلي. ويعتبر أنّ كفاح الشعب الفلسطيني يؤكّد "فشَل الحلّ القومي لدى الطرفيْن". فالعربُ مسؤولون، بقدر الصهاينة، عن النزاع. وبمناداته تكوين كنفدراليّة ديمقراطيّة كبيرة تضمّ كافّة شعوب المنطقة، يدعو أوجلان إسرائيل أن تتحوّل إلى أمّة "ديمقراطيّة ومنفتحة"، متجاهلاً أنّ ذلك مستحيلٌ تمامًا بسبب طبيعتها.25
[26] استراتيجية سياسيّة خطِرَة على الشعب الكُردي
يتّبنّى أوجلان أحيانًا خطابًا أناركيًا جذريًا. لكنّه يكشفُ، في القضيّة التي تهمّه بالأساس، المسألة الكرديّة، عن خطٍّ سياسي تَصْفَوِي. طِبقًا لإدانته للقوميّة ولكلّ أشكال الدولة، تخلّى ح.ع.ك. عن مطالبته بدولة كرديّة مستقلّة، وعن هدف إلغاء الحدود الظالمة التي رسَمها الإمبرياليّون الفرنسيون والبريطانيّون فشتّتَتْ الشعب الكردي بين أربع دُوَل. وطِبقًا لفكرة استحالة إسقاط الدول عبر القوّة، يؤكّد أوجلان بخصوص تركيا أنّه لا يعارض " لا وحدة الدولة ولا وحدة الجمهوريّة " 26
[27] . وذلك مقابل الاعتراف بالحدّ الأدنى من الحقوق للأكراد. وبالتالي يجب التخلّي عن الكفاح المسلّح : " على ح.ع.ك. إقناع دول المنطقة بحلّ سلميّ للمسألة الكُرديّة". 27
[28] ويقدّم أوجلان أمثلة تاريخيّة محدّدة تُبيّن الطريق التي يريد انتهاجها : ايرلندا الشماليّة وافريقيا الجنوبيّة، توصّلَتا، بحسبه، إلى " حلّ مسائل مماثلة. 28
